recent
أخبار ساخنة

### **أحمد أمين: مهندس العقل العربي الحديث وجسر التواصل بين التراث والحداثة**

الصفحة الرئيسية

 

### **أحمد أمين: مهندس العقل العربي الحديث وجسر التواصل بين التراث والحداثة**

 

في خضم التحولات الفكرية والاجتماعية الكبرى التي عصفت بالعالم العربي في النصف الأول من القرن العشرين، برزت قامات فكرية شاهقة رسمت ملامح الوعي الحديث، وشقت دروبًا جديدة لفهم الذات والآخر. ومن بين هذه القامات، يقف اسم "أحمد أمين" (1886-1954) كعلامة فارقة، لا لصخب أفكاره أو لحدة مواقفه، بل لعمق منهجه، وصبره الموسوعي، وقدرته الفذة على بناء الجسور بين تراث الأمة التليد ومتطلبات عصرها الجديد.

في خضم التحولات الفكرية والاجتماعية الكبرى التي عصفت بالعالم العربي في النصف الأول من القرن العشرين، برزت قامات فكرية شاهقة رسمت ملامح الوعي الحديث، وشقت دروبًا جديدة لفهم الذات والآخر. ومن بين هذه القامات، يقف اسم "أحمد أمين" (1886-1954) كعلامة فارقة، لا لصخب أفكاره أو لحدة مواقفه، بل لعمق منهجه، وصبره الموسوعي، وقدرته الفذة على بناء الجسور بين تراث الأمة التليد ومتطلبات عصرها الجديد.
### **أحمد أمين: مهندس العقل العربي الحديث وجسر التواصل بين التراث والحداثة**


### **أحمد أمين: مهندس العقل العربي الحديث وجسر التواصل بين التراث والحداثة**


  •  لم يكن أحمد أمين مجرد أديب أو مؤرخ، بل كان مهندسًا للعقل العربي، ومؤسسًا لمشاريع ثقافية
  •  كبرى، ورائدًا لتيار فكري قائم على الوسطية العقلانية التي سعت إلى تشريح وفهم "الحياة العقلية في
  •  الإسلام" بهدوء العالم وموضوعية القاضي.

#### **الجذور والتكوين من الأزهر إلى بوتقة الحداثة**

 

وُلد أحمد أمين إبراهيم الطباخ في القاهرة عام 1886، في بيئة تقليدية كانت بداية مسيرته. انطلق من "الكُتّاب" حيث حفظ القرآن، ثم إلى رحاب الجامع الأزهر، معقل العلوم الإسلامية التقليدية. كانت هذه المرحلة أساسًا متينًا منحه إلمامًا عميقًا باللغة وعلوم الدين

  • وهو ما سيمنح كتاباته لاحقًا أصالة ورصانة. لكن نقطة التحول الحقيقية في مسيرته كانت التحاقه
  •  بـ"مدرسة القضاء الشرعي" عام 1907. لم تكن هذه المدرسة مجرد مؤسسة تعليمية أخرى، بل كانت
  •  مشروعًا إصلاحيًا يهدف إلى تخريج قضاة يجمعون بين العلوم الشرعية الراسخة والثقافة العصرية
  •  بما في ذلك القانون الحديث واللغات الأجنبية.

 

في هذه المدرسة، وجد أحمد أمين بيئة خصبة أتاحت لفكره أن يتفتح. وقع تحت تأثير أستاذه ومديره، "عاطف باشا بركات"، الذي تعلم منه ليس فقط المعرفة، بل الحزم والدقة والثبات على المبدأ، وهي صفات لازمته طوال حياته.

 كانت مدرسة القضاء الشرعي هي البوتقة التي انصهر فيها تكوينه الأزهري التقليدي مع رياح التحديث، فبدأ رحلته الشاقة والمثمرة في تعلم اللغة الإنجليزية بمجهود ذاتي، مدركًا أنها نافذة لا غنى عنها لفهم الفكر العالمي. هذه الازدواجية في التكوين – العمق في التراث والانفتاح على الحداثة – هي التي شكلت جوهر منهجه الفكري.

 

#### **المشروع الفكري الأكبر تشريح الحياة العقلية في الإسلام**

 

إذا كان لكل مفكر عظيم مشروع حياة يختزل رؤيته، فإن مشروع أحمد أمين الأكبر هو سلسلته الموسوعية التاريخية: **"فجر الإسلام"**، **"ضحى الإسلام"**، و**"ظهر الإسلام"**، التي توجها بكتاب **"يوم الإسلام"**. لم تكن هذه السلسلة مجرد سرد للأحداث السياسية، بل كانت محاولة رائدة وغير مسبوقة لتشريح "الحياة العقلية" للحضارة الإسلامية في عصورها المختلفة.

 

  1. اتسم منهجه في هذه السلسلة بالشمولية والتحليل العميق. فبدلًا من الاكتفاء بسرد تاريخ الخلفاء
  2.  والفتوحات، غاص أحمد أمين في أعماق المجتمع ليرصد حركة الأفكار والتيارات الدينية والفلسفية
  3.  (كالمعتزلة والأشاعرة والمتصوفة)، والحياة الأدبية والعلمية، والعادات والتقاليد الاجتماعية، وحتى
  4.  حياة اللهو والمجون. كان هدفه تقديم صورة بانورامية كاملة، تسمح للقارئ المعاصر بفهم كيف تشكل
  5.  العقل المسلم عبر القرون، بكل تناقضاته وثرواته.

 

كانت "الوسطية" هي السمة الأبرز في تحليلاته. عند تناوله للفرق والمذاهب، حرص على عرض حجج كل طرف بأمانة وموضوعية، قبل أن يقدم رأيه النقدي المتوازن. لقد تجنب فخاخ الجدال العقائدي، وركز على الأثر الفكري والاجتماعي لكل تيار.

 وبهذا، قدم للتاريخ الإسلامي خدمة جليلة، منقذًا إياه من القراءات المتحيزة، سواء كانت تقديسية ترفض النقد، أو استشراقية معادية تبحث عن المثالب. لقد كان عمله بمثابة حفر أثري هادئ ودقيق في طبقات العقل العربي، كاشفًا عن كنوزه ومكامن ضعفه على حد سواء.

 

#### **رجل المؤسسات بناء صروح الثقافة**

 

لم يكتفِ أحمد أمين بأن يكون مفكرًا منعزلًا في برجه العاجي، بل كان رجل عمل ومؤسسات، مؤمنًا بأن الفكر لا قيمة له ما لم يتحول إلى أثر ملموس في حياة الناس. ويتجلى هذا البعد العملي في شخصيته من خلال ثلاثة مشاريع كبرى:

 

1.  **لجنة التأليف والترجمة والنشر (1914-1954):** كان أحد مؤسسي هذه اللجنة وظل رئيسًا لها لأربعين عامًا حتى وفاته. كانت اللجنة مشروعًا تنويريًا رائدًا، عملت على تقديم ذخائر الفكر الإنساني العالمي للقارئ العربي عبر ترجمات رصينة، وفي الوقت نفسه، قدمت أمهات كتب التراث العربي محققة تحقيقًا علميًا دقيقًا. أصدرت اللجنة أكثر من مئتي كتاب، وأصبحت علامة على الجودة والموثوقية، مساهمةً في تشكيل مكتبة كل مثقف عربي في ذلك العصر.

 

2.  **مجلة "الثقافة" (1939):** بالتوازي مع كتاباته في "مجلة الرسالة" الشهيرة، أسس أحمد أمين مجلته الخاصة "الثقافة". لم تكن مجرد منبر أدبي، بل ساحة حقيقية للحوار الفكري العميق. على صفحاتها، شجع التيارات الأدبية الجديدة، وفتح الباب للنقاش حول المذاهب الفكرية والسياسية الحديثة، وخاض حوارات شهيرة، أبرزها حواره مع الفيلسوف زكي نجيب محمود حول قيمة التراث العربي. دافع أحمد أمين بقوة عن أهمية إحياء التراث ليس كغاية في حد ذاته، بل كأساس ضروري لأي نهضة حقيقية، مؤكدًا أن الأمم العظيمة لا تبني مستقبلها بقطع جذورها.

 

3.  **الجامعة الشعبية (1945):** عندما تولى إدارة الثقافة بوزارة المعارف، أطلق مشروعه الذي أطلق عليه بمحبة "ابنتي العزيزة": الجامعة الشعبية. كانت فكرته هي دمقرطة الثقافة، ونقل المعرفة من أسوار الجامعة النخبوية إلى عامة الشعب عبر محاضرات وندوات مبسطة ومتاحة للجميع. هذا المشروع، الذي تطور لاحقًا ليصبح نواة "قصور الثقافة"، يكشف عن إيمانه العميق بحق كل مواطن في المعرفة، وبأن نهضة الأمة تبدأ من رفع الوعي العام.

 

#### **الأكاديمي والإداري بين شغف البحث وأعباء المناصب**

 

كانت الجامعة محطة محورية في حياة أحمد أمين. بدعوة من صديقه طه حسين، التحق بكلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1926، حيث درّس النقد الأدبي وتدرج في المناصب حتى أصبح عميدًا للكلية عام 1939. إلا أن تجربته الإدارية كانت علاقة حب وكراهية. ففي حين أتاح له المنصب التأثير في السياسات التعليمية، شعر بأنه يسرقه من مشروعه البحثي الأهم. مقولته الشهيرة بعد استقالته من العمادة، **"أنا أصغر من أستاذ وأكبر من عميد"**، تلخص فلسفته: فالأستاذ الباحث والمفكر هو هوية أصيلة وغاية، أما العمادة فمجرد منصب إداري عابر.

 

  1. شهدت هذه الفترة أيضًا تباعدًا بينه وبين طه حسين، ليس على المستوى الشخصي بقدر ما كان انعكاسًا
  2.  لاختلاف المزاج والمنهج. فطه حسين كان الصدامي، صاحب المعارك الفكرية الكبرى، بينما كان
  3.  أحمد أمين هو الباحث الهادئ الذي يفضل البناء المنهجي على الصراع الجدلي.

 

#### **الإرث الخالد عقلانية ومنهج**

 

في 30 مايو 1954، رحل أحمد أمين عن عالمنا بعد أن ألم به المرض في سنواته الأخيرة، لكنه لم ينقطع عن الكتابة والبحث حتى الرمق الأخير. ترك وراءه مكتبة ضخمة ومتنوعة، تشمل موسوعته التاريخية، وكتبًا في الأخلاق والإصلاح، وسيرته الذاتية الصادقة "حياتي"، ومقالاته العميقة في "فيض الخاطر".

 الختام

إن إرث أحمد أمين لا يكمن فقط في حجم إنتاجه، بل في الروح التي بثها في الثقافة العربية. لقد قدم نموذجًا للمفكر الموسوعي، الذي يجمع بين الدقة العلمية، والنزاهة الفكرية، والمسؤولية الاجتماعية. كان رجل منهج قبل أن يكون رجل أيديولوجيا، ورجل بناء قبل أن يكون رجل هدم. في زمن الاستقطاب الحاد، اختار طريق الوسطية العقلانية، مؤكدًا أن فهم الماضي بموضوعية هو الخطوة الأولى لبناء مستقبل واعٍ.

 ولعل أعظم ما تركه هو هذا المنهج الذي علم جيلاً كاملاً كيف يقرأ تراثه قراءة نقدية بناءة، وكيف يتفاعل مع العالم دون أن يفقد هويته، ليظل بحق أحد أهم مهندسي العقل العربي في العصر الحديث، وهو الإرث الذي حمل لمحات منه ابناه المفكران جلال وحسين أمين.


author-img
Tamer Nabil Moussa

تعليقات

ليست هناك تعليقات

    google-playkhamsatmostaqltradent